سؤال الميّت أو الغائب
يرى الوهابية أنّ الطلب من الحي الحاضر فيما يقدر عليه مباح , أمّا إذا تكرر نفس الطلب من الغائب أو الميّت أصبح شركاً!! فإذا كان بجانبك رجل وقلت له : يا فلان! أحضر لي كأس ماء , فلن يكون في طلبك أي محذور , فإذا خرج الرجل من عندك وغاب عنك وكررت نفس الطلب فقلت له : يا فلان! أحضر لي كأس ماء , فقد أشركت شركاً أكبر , وخرجت من دائرة الإسلام!! , وإذا كان عندك رجل حي فمات بجانبك فقلت له : يا فلان! أحضر لي كأس ماء , فقد أشركت شركاً أكبر!! مع أنّ هذا السؤال للغائب والميّت يعتبر سخافة وحمقاً , ولا دخل للشرك فيه , إلا إذا اعتقد السائل في الميت أو الغائب الإلهية وخواص الربوبية , أو قَصَدَ بسؤاله التعبد له , فكون المدعو متسبباً في الفعل عادة أولا , ووجود المدعو وغيبته , ليست معايير لكون الطلب منهم شركاً , بل هي معايير لكون الطلب منهم معقولاً أو سخيفاً , فمن طلب من الغائب أو من الحاضر العاجز أمرًاً , فهذا الطلب سخافة وحمق , وليس كفراً وشركاً , وإذا كان طلب الدعاء من الميّت شركاً , فطلبه كذلك من الحي شرك , لأن ماهية العمل في كلا الفعلين واحدة , فلا يصح التفريق بينهما .
قال ابن عثيمين فيما سبق نقله :
( النوع الثاني: دعاء المسألة وهو دعاء الطلب أي طلب الحاجات , وينقسم إلى ثلاثة أقسام : .....
القسم الثالث: دعاء الميت أو الغائب بمثل هذا فإنه شرك؛ لأن الميت أو الغائب لا يمكن أن يقوم بمثل هذا , فدعاؤه إياه يدل على أنه يعتقد أن له تصرفا في الكون فيكون بذلك مشركا ) .
فبعد أن فرّق ابن عثيمين بين دعاء العبادة ودعاء المسألة , ذكر أنواع دعاء المسألة , وذكر ما يعتبرونه منها شركاً وما يعتبرونه مباحاً , وتفريقه بين الدعائين في بداية الأمر دليل على أنّ دعاء المسألة ليس من العبادة , فالقول بأنّ دعاء المسألة -فيما لا يقدر عليه إلا الله- ودعاء الميّت والغائب عبادة , يخالف تفريقهم بين دعاء العبادة ودعاء المسألة , فلا بد من وجود معيار آخر للحكم على دعاء الغائب أو الميّت بالشرك , وهذا المعيار واضح من كلام ابن عثيمين عندما قال :
( القسم الثالث: دعاء الميت أو الغائب بمثل هذا فإنه شرك؛ لأن الميت أو الغائب لا يمكن أن يقوم بمثل هذا , فدعاؤه إياه يدل على أنه يعتقد أن له تصرفا في الكون ,فيكون بذلك مشركا ) .
وأكّد على هذه العلة في أكثر من موضع , فقال في مجموع الفتاوى له (6/59) :
( الرابع: الاستعانة بالأموات مطلقا أو بالأحياء على أمر غائب لا يقدرون على مباشرته , فهذا شرك , لأنه لا يقع إلا من شخص يعتقد أن لهؤلاء تصرفا خفيا في الكون ) .
وقال أيضاً :
( الثاني: الاستغاثة بالأموات أو بالأحياء غير الحاضرين القادرين على الإغاثة فهذا شرك؛ لأنه لا يفعله إلا من يعتقد أن لهؤلاء تصرفا خفيا في الكون فيجعل لهم حظاً من الربوبية .. )
فالواضح من كلامه أنّهم يرون شركية دعاء المسألة في دعاء الغائب والميت , لاعتقاد الداعي في المدعو تصرفاً في الكون , وهذا الاعتقاد من الداعي في المدعو ليس شركاً في الألوهية , بل هو شرك في الربوبية إن كان باعتقاد التصرف الاستقلالي , وهذا هو السبب الدقيق في تفريقهم بين دعاء الحي والحاضر وبين دعاء الميت والغائب , لا أنّ كون دعاء الميت والغائب عبادة لهم ودعاء الحاضر ليس عبادة , لأنّ العبادة لا يجوز أداؤها للحي والحاضر دون الميت والغائب , فباعتبار أن موجب الوقوع في الشرك هو كون الدعاء عبادةً , لا يصح التفريق بين الحاضر والغائب وبين القادر وغير القادر , أمّا باعتبار أن موجب الوقوع في الشرك هو كون الداعي يعتقد تصرف المخلوق في الكون , فيصح التفريق بين الحاضر والغائب وبين القادر وغير القادر .
إلا أنّ هذا السبب يناقض ما أسسوه ورسموه , من كون الجاهليين موحدين لله تعالى في الربوبية توحيداً كاملاً لا شائبة فيه , فقد كان أهل الجاهلية يدعون أصنامهم الميتة , والتي لا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على التسبب في شيء , فاستغاثة المشركين بأصنامهم تدلّ على أنّهم اعتقدوا فيها تصرفاً في الكون , وهذا شرك في الربوبية , مع كون استغاثتهم بأصنامهم كانت بقصد عبادتها , إلا أنّ الوهابية أحسنوا الظنّ في الجاهليين الذين يبيّن القرآن شركهم في الربوبية , وقالوا بأنهم ليسوا كذلك!!
والوهابية يعترفون بأن المستغيثين بالأنبياء والأولياء من هذه الأمة ليسوا مشركين في الربوبية , وخصوصاً عندما يردّ أولئك المستغيثون على الوهابية ويقولون : إننا لا نعتقد في الأنبياء والأولياء شيئاً من الربوبية والتصرف من دون الله , بل ينقل محمّد بن عبد الوهاب عمّن يكفرهم من المستغيثين أنهم موحدون في الربوبية ولا يجعل بينهم وبين المشركين فرقاً في ذلك فيقول :
(منها قولهم : نحن لا نشرك بالله ، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرا فضلاً عن عبدالقادر أو غيره ، ولكن أنا مذنب ، والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم.
فجاوبه بما تقدم : وهو أن الذين قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقرون بما ذكرت) .
فإذا كانت العلة في شركية دعاء الأموات والغائبين , هي الاعتقاد بالتصرف في الكون للأنبياء والأولياء , والمستغيثون بهم لا يعتقدون ذلك فيهم , فلا تلازم بين الاستغاثة وبين اعتقاد التصرف -الخفي أو الجلي- في الكون , ولو كان هناك تلازم بينهما , لكانت الاستغاثة بالأحياء أقرب إلى الاعتقاد بتصرفهم واعتقاد تأثيرهم بالإعطاء والمنع من دون الله , بمقتضى الحس والمشاهدة ، لولا نور الإيمان وساطع البرهان!
ثم إن المستغيث لا يعرف ما يقوم بقلبه واعتقاده إلا الله تعالى! والأصل في المسلمين أنّهم لا يعتقدون تصرفاً لغير الله , فالحكم بأنّ المستغيث بالأنبياء يعتقد لهم تصرفاً ادّعاء لعلم ما في القلوب! ولا يعلم ما في القلوب إلا علّام الغيوب .
ويظهر من قوله : (لأنه لا يفعله إلا من يعتقد أن لهؤلاء تصرفا خفيا في الكون فيجعل لهم حظاً من الربوبية) , أنّه يرى في الاعتقاد بالتصرف الخفي للمخلوق جعلاً للمخلوق حظاً من الربوبية!! مع أنّ الاعتقاد بالتصرف في الكون بإذن الله تعالى –خفياً كان أو جلياً- ليس شركاً , وإنما الشرك اعتقاد ذلك دون إذن الله تعالى وأمره , فالاعتقاد في مخلوق بالتصرف بإذن الله تعالى عبارة عن الاعتقاد بأن المتصرف الحقيقي هو الله تعالى , وأنّه لا تصرف لغيره سبحانه , كيف لا وقد أعطى الله تعالى بعض الخلائق التصرف في الكون بإذنه , فقد أخبر الله تعالى عن الملائكة واصفاً إياهم : ((فالمُدبّراتِ أَمْرَاً)) , قال الإمام الطبراني في تفسير القرآن العظيم :
(وقولهُ تعالى : { وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ } ؛ أي يُرمَون من كلِّ جانبٍ بالشُّهُب ، يعني أنَّ الشياطين يُرمَون بالشُّهب عندَ دُنُوِّهِمْ من السَّماء لاستماعِ كلامِ الملائكة في تدبر أمُور الدُّنيا ) .
وقال الإمام ابن كثير في تفسيره :
(وقوله: { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } قال علي، ومجاهد، وعطاء، وأبو صالح، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي: هي الملائكة-زاد الحسن: تدبر الأمر من السماء إلى الأرض. يعني: بأمر ربها عز وجل) .
وقال الإمام السيوطي في الدر المنثور :
(وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عليّ في قوله : { والنازعات غرقاً } قال : هي الملائكة تنزع أرواح الكفار { والناشطات نشطاً } هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الأظفار والجلد حتى تخرجها { والسابحات سبحاً } هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء والأرض { فالسابقات سبقاً } هي الملائكة يسبق بعضها بعضاً بأرواح المؤمنين إلى الله { فالمدبرات أمراً } قال : هي الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة ) .
فالاعتقاد بأن مخلوقاً له تدبير في الكون بإذن الله تعالى لا يعتبر شركاً , بخلاف الاعتقاد في ذلك المخلوق أنّه يتصرف دون عطاء الله تعالى وأمره وإذنه , فإنّ الاعتقاد بتدبير المخلوق بإذن الله تعالى هو اعتقاد بأن المدبّر الحقيقي والمتصرف الوحيد هو الله تعالى , وأنّ الله تعالى أعطى لهذا المخلوق التسبب في التدبير , وإذا طلبت من شخص أن يعينك في حَمل شيء أو بناء بيت أو حفر بئر فقد نسبت له القدرة على هذا التصرف والفعل , إلا أنّ هذا لا يعتبر شركاً وذلك لاعتقادك أنّه سبب فقط , وليس له تأثير ذاتي وليس فاعلاً بالاستقلال , فإذا ثبت أنّ الله تعالى أعطى هذا المخلوق التصرف المُدّعى , فليس الاعتقاد بتصرّفه شركاً , وإذا لم يثبت أن هذا المخلوق متسبب بذلك الفعل كانت نسبة التسبب في التصرف إليه خطأ في نسبة السببية.
وإذا اعتقد إنسان في الملائكة أنّ الله تعالى أعطاها تدبيراً كان مصيباً في اعتقاده ذلك , وإذا اعتقد في مخلوق أنّ الله تعالى أعطاه تدبيراً كتدبير الملائكة , لكن لم يثبت له هذا التدبير , كان مخطئاً في نسبة التدبير لهذا المخلوق ليس إلا , لكن لا يقال بأنّه أشرك مع الله في التدبير , وذلك لاعتقاده أنّ التدبير مِنَ الله تعالى , وأنّ الله تعالى أعطى هذا المخلوق شيئاً من التدبير كما أعطى الملائكة , لكنّه أخطأ في نسبة هذا التدبير العطائي لذلك المخلوق .
وقد أسند الله تعالى إلى نفسه توفي أنفس العباد , فقال : ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا )) الزمر: 42 .
وأسند إلى ملك الموت التوفي كذلك , فقال : ((قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ)) السجدة: 11
إلّا أنّ توفي ملك الموت للأنفس إنما هو بإذن الله وعطائه , والمتوفي الحقيقي لأنفس العباد هو الله تعالى , فلو نسب شخص وفاة الأنفس إلى ملك الموت لم يكن مشركاً , لاعتقاده بأن الله تعالى أعطاه ذلك وليس باستقلال منه , بل كان مصيباً في ذلك لوجود الدليل , ولو نسب شخص وفاة الأنفس لمخلوق لم يثبت إعطاء الله تعالى له توفي الأنفس –كميكائيل مثلاً- لم يكن مشركاً , لاعتقاده بأن الله تعالى أعطى ميكائيل ذلك وليس باستقلال منه , لكنّه مخطئ في ذلك لعدم وجود الدليل .
ومثله من اعتقد تصرّف أرواح الأنبياء والأولياء بإذن الله تعالى وعطائه , فليس مشركاً لاعتقاده بأن الله تعالى أعطاهم ذلك وليس باستقلال منهم , فإن كان له دليل على ذلك كان مصيباً كمن نسب توفي الأنفس إلى ملك الموت بإذن الله , وإن لم يكن له دليل على ذلك كان مخطئاً كمن نسب توفي الأنفس إلى ميكائيل .
ولو كان الاعتقاد في أحد المخلوقات بالتصرف العطائي الموهوب من الله تعالى شركاً , لكان ابن تيمية نفسه مشركاً , فقد قال في مجموع الفتاوى (4/379) :
( وَقَدْ قَالُوا : إنَّ عُلَمَاءَ الْآدَمِيِّينَ مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي وَالْمُضَادِّ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ . ثُمَّ هُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ ؛ وَأَمَّا النَّفْعُ الْمُتَعَدِّي وَالنَّفْعُ لِلْخَلْقِ وَتَدْبِيرُ الْعَالَمِ فَقَدْ قَالُوا هُمْ تَجْرِي أَرْزَاقُ الْعِبَادِ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَيَنْزِلُونَ بِالْعُلُومِ وَالْوَحْيِ وَيَحْفَظُونَ وَيُمْسِكُونَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْمَلَائِكَةِ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ صَالِحَ الْبَشَرِ لَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ , وَأَكْثَرُ مِنْهُ! ..
وَيَكْفِيك مِنْ ذَلِكَ شَفَاعَةُ الشَّافِعِ الْمُشَفَّعُ فِي الْمُذْنِبِينَ , وَشَفَاعَتُهُ فِي الْبَشَرِ كَيْ يُحَاسَبُوا وَشَفَاعَتُهُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ . ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَقَعُ شَفَاعَةُ الْمَلَائِكَةِ وَأَيْنَ هُمْ مِنْ قَوْلِهِ : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } ؟ وَأَيْنَ هُمْ عَنْ الَّذِينَ : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } ؟ وَأَيْنَ هُمْ مِمَّنْ يَدْعُونَ إلَى الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ؛ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً ؟ وَأَيْنَ هُمْ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَشْفَعُ فِي أَكْثَرَ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ } " ؟ وَأَيْنَ هُمْ مِنْ الْأَقْطَابِ وَالْأَوْتَادِ والأغواث ؛ وَالْأَبْدَالِ وَالنُّجَبَاءِ ؟ )
وقد ذهب ابن القيم في كتابه الروح , إلى تصرّف الأرواح موتى الصالحين بإذن الله تعالى , وأنّ لها همّة عالية وقدرة على أفعال عظيمة كهزيمة الجيوش الكثيرة .
وقال الشوكاني في "قطر الولي على حديث الولي" (279-261) :
( جواز الكرامات : ومن وُهِب له هذه الموهوبات الجليلة وتُفضِّلَ عليه بهذه الصفات الجميلة , فغير بعيد ولا مستنكر أن تظهر على يده من الكرامات التي لا تنافي الشريعة والتصرفات في مخلوقات الله عز وجل الوسيعة ، لأنه إذا دعاه أجابه وإذا سأله أعطاه ، ولم يصب من جعل مايظهر من كثير من الأولياء من قطع للمسافات البعيدة، والمكاشفات المصيبة ، والأفعال التي تعجز عنها غالب القوى البشريَّة ، من الأفعال الشيطانية وَ التصرفات الإبليسية , فإن هذا غلط واضح ، لأن من كان مجاب الدعوة لا يمتنع عليه أن يسأل الله أن يوصله إلى أبعد الأمكنة التي لا تقطع طريقها إلا في شهور في لحظة يسيرة، وهو القادر القوي الذي ما شاءه كان ، وما لم يشأه لم يكن ، وأي بُعد في أن يجيب الله دعوة من دعاه من أوليائه في مثل هذا المطلب وأشباهه ..... .
وأما مجرد استبعاد أن يهب الله سبحانه لبعض عباده أمراً عظيماً ويعطيه ما تتقاصر عنه قوى غيره من المنح الجليلة، والتفضلات الجزيلة فليس مرادات المتصفين بالإنصاف , وكثيرًا ما ترى الجبان إذا حكيت له أفعال الأفراد من أهل الشجاعة , من مقارعة البطال وملابسة الأهوال ومنازلة العدد الكثير من الرجال , يستبعد عقله ذلك ويضيق ذهنه عن تصوره ويظنه باطلًا , ولا سبب لذلك إلا أن غريزته المجبولة على الجبن الخالع تقصر عن أقل قليل من ذلك وتعجز عن الملابسة لأحقر منه . وهكذا البخيل إذا سمع ما يحكي عن الأجواد من الجود بالموجود والسماحة بالكثير الذي يشح نفوس من لم يهب الله له غريزة الكرم المحمودة بعشر معشاره , ظنّ أن تلك الحكايات من أخبار الوراقين ....... .
فاعرف هذا , وعلم أنّ مواهب الله عز وجل لعباده ليست بموضع لاستبعاد المستبعدين , وتشكيكات المشككين..الخ ) .
فهل هؤلاء مشركون لاعتقادهم بتصرّف الأولياء في الكون بإذن الله تعالى؟! وهل أعطوهم حظًا من الربوبية؟!!
إلّا أنّ الوهابية يرون أنّ الأنبياء والأولياء في قبورهم لا يدركون شيئاً ولا يسمعون , وأنّهم غير قادرين على التسبب في شيء , ولا يقدرون على الدعاء لأحد , فحالهم كحال الأصنام الميتة التي دعاها المشركون , ومن طلب منهم كان كمن طلب من تلك الأصنام .
قلت : إذا سلّمنا جدلاً أنّ الأنبياء والأولياء لا يسمعون ولا يتسببون في شيء كالأحياء , فلا يلزم أن يكون الطلب منهم شركاً , لأن السائل لا يقصد التعبد ولا يعتقد فيهم ربوبية ولا ألوهية , بل يرى أنّهم أسباب فقط كالأحياء , وأنّ الفاعل الحقيقي والمتصرف الوحيد هو الله تعالى , فيكون المستغيث مخطئاً في نسبته السماع والتسبب لهؤلاء الأموات , ويكون فعله سخافة وحمقاً فحسب , كمن طلب من شجرة أن تَحضُر عنده أو أن تُحضِر له كأس ماء , ويرى أنّها لا تتحرك بنفسها ولا تفعل إلا بإذن الله , وأنّ الله تعالى مكّنها من التحرك كما مكّن البشر , فإن ثبت أنّ الله تعالى أعطى هذه الشجرة القدرة على الحركة كالأحياء كان مصيباً , وإن لم يعط الله تعالى هذه الشجرة القدرة على الحركة كان طلبه منها سخافة وحمقاً لا شركاً وكفراً , وكذلك إذا ثبت أنّ الأنبياء والأولياء يسمعون ويتسببون كان الطلب منهم صحيحاً , وكان المستغيث بهم مصيباً لاعتماده على دليل صحيح , وإذا ثبت أنّهم لا يسمعون ولا يتسببون كان الطلب منهم سخافة وحمقاً , وكان المستغيث بهم مخطئاً لاعتماده على دليل غير صحيح , بخلاف من يطلب من الأصنام معتقدًا فيها الإلهية والتصرف الاستقلالي , مع نيته عبادة تلك الأصنام .
والمستغيثون بالأنبياء والأولياء يعتقدون أنّ أفعال الأحياء تنسب إليهم على سبيل التسبب لا على سبيل التأثير الذاتي والإيجاد الحقيقي , وكذلك اعتقادهم أنّ للأنبياء والأولياء في قبورهم أفعالاً على سبيل التسبب لا على سبيل التأثير الذاتي والإيجاد الحقيقي , ولا يعقل أنّهم ينسبون إليهم الفعل على سبيل التسبب حال الحياة , ثم ينسبونه إليهم على سبيل الإيجاد والتأثير الذاتي بعد الوفاة , فإذا كان في الاستغاثة بالأنبياء والأولياء غلط فهو في اعتقاد أنّهم متسببون , لأن هذا هو غاية ما يعتقده المستغيثون بهم , والخطأ في اعتقاد السببية في مخلوق ليس شركاً ولا كفراً , فمن يرى السببية فيمن لم تثبت له لم يأت بأمر شركي , ومن جعل غير السبب سبباً فهو جاهل وليس بكافر , وحاله كحال من طلب من المشلول المُقعد أن ينقل عنه شيئاً ثقيلاً معتقدًا أنّه متسبب في ذلك , فهل يكفر بطلبه هذا؟
وعلى فرض عدم سماع الأنبياء والأولياء في قبورهم , فإن اعتقاد المستغيث بسماعهم في قبورهم يُبطِل اعتبار استغاثته شركاً , وذلك لأنّ استغاثته تصبح من قبيل الاستغاثة بمن يعتقد أنه يسمعه من الأحياء الحاضرين لكنّه في الحقيقة لا يسمعه , فلا يقول عاقل عن رجلٍ استغاث بشخصٍ أصمّ معتقداً سماعه أنّه مشرك!! فمن استغاث بالنبي أو الولي معتقداً سماعه كان كمن استغاث بالأصمّ وهو لا يدري أنّه أصمّ ! , فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : ((إنما الأعمال بالنيات)) , هذا إن لم يثبت سماعهم , مع أنّ سماعهم وتسببهم في بعض الأفعال ثابت , وسيأتي بيانه .
والوهابية يقولون إنّ الاستغاثة بالحي الحاضر ليست إلا باعتقاد أنّه سبب عادي فقط , وكذلك المستغيثون يقولون لهم إنّ استغاثتنا بالأنبياء ليست إلا باعتقاد أنّهم أسباب عادية فقط , لكنّ الوهابية يردّون على ذلك بأنّه لم يثبت أنّ للأنبياء والأولياء في قبورهم تسبباً في العادة , فالاستغاثة بالأنبياء والأولياء دون أن يثبت كونهم أساباً عادية شرك!!
وهنا وقع الخلط والخبط عندهم , فإن الاستغاثة بمخلوق باعتقاد أنّه سبب ليست شركاً , سواء ثبت تسببه أم لم يثبت , فالخلاف سينحصر بين الوهابية وبين المستغيثين بالأنبياء في كون الأنبياء في قبورهم أسباباً عادية أم لا , وهذا ما يُخرج الخلاف من دائرة التوحيد والشرك , إلى دائرة السنة والبدعة , فإن ثبت أنّ الأنبياء –عليهم السلام- والأولياء أسباب عادية كانت الاستغاثة بهم صحيحة , وإن لم يثبت كانت بدعة لا شركاً .
فالاستغاثة مبنية عند المستغيثين بالأنبياء والأولياء على أنّهم أحياء في قبورهم يسمعون ويتسببون في بعض الأفعال كالدعاء , ولهم أدلة صريحة صحيحة على ذلك , والغالبية العظمى من أئمة الإسلام يذهبون إلى سماع الأموات , ولم يخالف في ذلك إلا قلة قليلة لا يجاوزن عدد أصابع اليدين! , فإذا كان قول الجماهير من الأئمة والعلماء بسماع الأموات مطابقاً لما في نفس الأمر كان نداؤهم كنداء الأحياء صحيحاً لا شيء فيه , وإن كان قولهم غير مطابق لما في نفس الأمر فلا يقال إلا أنّ نداء الأموات سفاهة , كسؤال رجلٍ مقعدٍ أن ينقل شيئاً مع الاعتقاد بأنه صحيح غير مقعد .
عثمان محمد النابلسي منتدى الأصلين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق