الأحد، 23 أبريل 2017

مناقشة أدلة الوهابية في ذهابهم إلى إيمان المشركين بالربوبية

أدلة الوهابية في ذهابهم إلى إيمان المشركين بالربوبية إيمانًا تامًّا



لا بد من التنبيه إلى أن الربوبية لا تعني الخالقية فقط , فالربوبية أوسع من الخالقية بكثير, وعليه فلا يصح أن نصفَ المعترفَ بأن الله تعالى وحده الخالق بأنه موحد في الربوبية , إذ لا بدّ من القبول لأوامره حتى يستحق وصفَ المؤمن أو الموحد في الربوبية , ولا بدّ أن ينفي أي تدبيرٍ وتصرفٍ حقيقيٍ لغيره في الكون عُلويّه وسفليّه , فقد كان قوم سيدنا إبراهيم –عليه السلام- يعتقدونَ في معبوداتهم من الكواكبِ العُلوية التدبيرَ للأحداثِ الأرضية , فأشركوها في الربوبية ونسبوا تفويض المجرياتِ السفليةِ إليها , كما كان يعتقدُ مشركوا العربِ بتفويض النفعِ والضر وتدبير المجريات اليوميةِ إلى أصنامهم , تفويضاً يُشبه تفويض الملك تدبيرَ مُلْكه إلى أمرائه وولاته , فقد قال ابن كثير في تفسيره (7/85) : 
(وأخبر أن الملائكة التي في السموات من المقربين وغيرهم ، كلهم عبيد خاضعون لله ، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى ، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم، يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه!) . 

وقد أخبر القرآن الكريم أنّ المشركين دعوا النبي-صلى الله عليه وسلم- إلى اتخاذ رب غير الله تعالى , قال تعالى : ((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)) الأنعام: ١٦٤ ,  ولو كان معنى الرب هو الخالق , والمشركون موحدون في الخالقية , لما دعوا النبي – صلى الله عليه وسلم - إلى اتخاذ رب آخر!!
وكذلك قوله تعالى : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) البقرة: ٢١ .

إذ لو كان الرب بمعنى الخالق , لكان قوله تعالى ((الَّذِي خَلَقَكُمْ)) زائداً , فإذا أبدلنا كلمة "ربكم" بـ"خالقكم" لم يصبح للتكملة فائدة , لأن المعنى يصبح : اعبدوا خالقكم الذي خلقكم!! .

◙ ومَن استدل على إيمان المشركين بالربوبية بآيات تَذْكُرُ إقرار المشركين بأن الله تعالى خالق مدبّر للأمور العظام , كإنزال المطر وإنبات النبات , فقد أخطأ , إذ إن الربوبية تشتمل على إثبات جميع الأفعال وجميع الكمالات المطلقة لله تعالى دون نسبتها لأحد من الخلق , وهذا ما أخلّ به الجاهليون , فقد كانوا ينسبون تدبيرَ المجريات اليومية والأحداث الأرضية لمعبوداتهم من الأصنام والنجوم , مع إقرارهم بتدبير الله تعالى للأحداث العظام والأمور الكبرى , ومع ذلك فكانوا ينسبون إلى الله تعالى النقائصَ وما يستحيل في حق من وجبت له الربوبية , من الولد والجهل والعجز وغيرها من النقائص , فالجاهليون كانوا يقرون بأن الله تعالى خالق , إلا أنهم كانوا يعتقدون أيضاً بأنّ لأوثانهم وأصنامهم تدبيراً ونفعاً وضراً , فهي تضر وتنفع وتعطي وتمنع بذاتها .


۞ وقد استدل الوهابية ببعض الأدلّة لإثبات توحيد المشركين في الربوبية توحيداً كاملاً , فمنها :
قوله تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)) لقمان: ٢٥. 

وَقَوْله تَعَالَى: ((قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (*) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (*) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (*) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (*) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (*) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)) المؤمنون: ٨٤ - ٨٩ . 


وغيرها من الآيات التي تدل على إقرار المشركين بأن الله تعالى خالق رازق ..


◙ ◙ وهذا استدلال خاطئ , لأن افعال الرب ـسبحانه وتعالىـ غيرُ محصورةٍ في الخلقِ أو الرزق أو التدبيرِ للأمور العظام , بل المذكور في الآيات بعضُ أفعال الله تعالى وليست جميع أفعاله , فكيف نقول أنهم قد وحدوا الله في أفعاله , وهم قد جحدوا كثيراً منها كالبعث والنشور في اليوم الآخر اعتقادًا بعجزه الله؟!! 

وقالوا أنه ما ثَمّ إلا هذه الحياة الدنيا ، ولا حياة بعد الممات ، ولا بعث ولا نشور, فيقول قائلهم ـ وقد أخذ عظماً قد أرم ـ : يا محمد أتزعم أن ربك يعيد هذا ؟!! -والقائل هو العاص بن وائل القرشي- , فأنزل الله تعالى ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (*) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ )) يس: ٧٨ – ٧٩

قال الطبري في تفسيره (20/555) : 
( فتأويل الكلام إذن: أو لم ير هذا الإنسان الذي يقول "مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ" أنا خلقناه من نطفة فسويناه خلقا سَوِيًّا "فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ" يقول: فإذا هو ذو خصومة لربه، يخاصمه فيما قال له ربه إني فاعل، وذلك إخبار لله إياه أنه مُحْيي خلقه بعد مماتهم، فيقول: "مَنْ يحيي هذه العظام وهي رميم"؟ إنكارا منه لقُدرة الله على إحيائها!) .

فقد أنكروا قدرة الله تعالى على أمر يسير , وهذا جحود لصفات الربوبية.

وقال تعالى : ((زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) التغابن: ٧ 


وقال تعالى : ((إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (*) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ)) الدخان: ٣٤ – ٣٥ .

فأين التوحيد في الأفعال ؟ ! 

۞ وقال تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ)) الأنعام: ٢

قال الطبري في تفسيرها (11/260) :
( يقول تعالى ذكره: ثم أنتم تشكُّون في قدرة من قَدَرعلى خلق السماوات والأرض، وإظلام الليل وإنارة النهار، وخلقكم من طين حتى صيَّركم بالهيئة التي أنتم بها , على إنشائه إياكم من بعد مماتكم وفنائكم , وإيجاده إيّاكم بعد عدمكم ) .


فكونهم أقروا ببعض الأفعال لا يعني ذلك توحيدهم في بقية أفعال الربوبية , بل لو أقروا بالبعث والنشور وسائر أفعال الخالق سبحانه وتعالى , ونسبوا لأصنامهم تحريك نسمة من هواء أو جلب نفع ودفع ضر من دون الله تعالى.. لكانوا بذلك مشركين غير موحدين في الربوبية , فكيف وقد جحدوا البعث والنشور , وزعموا أن اصنامهم شريكة لله في التصرف والتدبير , وغير ذلك من ترهاتهم؟ 


◙ ◙ ◙ وإقرار المشركين ببعض أفعال الله تعالى لا يعني أنهم لم يعتقدوا في غيره القدرة عليها , قال تعالى : ((قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (*) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (*) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (*) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (*)بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (*) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (*) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) المؤمنون: ٨٦ - ٩٢ 

فأوّل هذه الآيات يتحدّث عن إقرار المشركين بأن الله تعالى خالقٌ مدبّر , وآخر هذه الآيات يُنكر عليهم أمراً وينزّه الله تعالى عنه , فما هو هذا الأمر الذي ينكره الله تعالى عليهم ؟


إن المشركين يقرّون بأن اللهَ اتخذ ولداً , والولدُ يجانس أباه ويشابهه في صفاته من القدرة على الخلق والنفع والضر .
فقد قال القرطبي في تفسيره (16/71) :
(وَمَنْ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتِ اللَّهِ فَقَدْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ شِبْهًا لِلَّهِ، لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ جِنْسِ الْوَالِدِ وَشِبْهَهُ) .

وقال ابن كثير في تفسيره (7/42) : 
( وقوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} قال مجاهد: قال المشركون: الملائكةُ بناتُ الله. فسأل أبو بكر، رضي الله عنه: فمن أمهاتهن؟ قالوا: بنات سَرَوات الجن ) ..

فالأمر الذي أنكرته الآياتُ على المشركين هو الولد الذي يشابه أباه في ذاته وخصائصه , وكذلك أنكرت عليهم الآيات اتخاذهم شريكاً لله , قال الطبري في تفسيره (19/66) : 
( (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) يقول: وإن المشركين لكاذبون فيما يضيفون إلى الله، وينْحَلُونه من الولد والشريك ) .

فأبطلت هذه الآيات الولدَ والشريكَ لله تعالى , إلا أن الولد والشريك اللذين أبطلَتْهما الآياتُ هما مما يُعتَقد فيهما صفات الربوبية من الخلق والتصرف , والذي يدلّ على هذا أنّ برهان إبطال الولد والشريك قد أبطل أن يكون هناك موجودٌ غيرُ الله له خلقٌ وتدبير , واللهُ تعالى أجلّ من أن يخاطبهم ويردّ عليهم في شيء لم يعتقدوه , فيقول الإمام الطبري في تفسيره (19/66) :
( (إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ) يقول: إذن لاعتزل كل إله منهم (بِمَا خَلَقَ) من شيء ، فانفرد به ، ولتغالبوا ، فلعلا بعضهم على بعض ، وغلب القويّ منهم الضعيف؛ لأن القويّ لا يرضى أن يعلوه ضعيف ، والضعيف لا يصلح أن يكون إلها ، فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها، لمن عقل وتدبر) ..


فالقرآن لا يستدلّ عليهم على فساد أمر لا يقولون به!! , واللهُ تعالى أجلّ من أن يخاطبهم ويبرهن لهم على بطلان عقيدة هم يقرون ببطلانها , وبيّنَ اللهُ تعالى أنّهم كاذبون في ادّعائهم الولد والشريك بقوله : (وإنهم لكاذبون) , ونزّه -سبحانه- نفسَه عمّا يقول المشركون من أن يكون له ولد أو شريك فيما خلق بقوله : (سبحان الله عمّا يصفون) , وبيّن أنه متعالٍ عن إشراكهم معه ولداً أو إلهاً يخلق ويتصرف بقوله : (فتعالى عمّا يشركون) .


◙ ◙ ◙ ◙ وإقرار المشركين لم يكن عن يقينٍ جازمٍ راسخ كيقين المؤمنين الصادقين , بل كان ضعيفًا متذبذبًا 

قال النيسابوري في تفسيره عند تفسير الآية "36"من سورة الطور :
( ثم احتج عليهم بالأنفس ثم بالآفاق ثم قال {بل لا يوقنون} وذلك أنه حكى عنهم {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} [ لقمان : 25 ] فتبين أنهم في هذا الاعتراف شاكون , إذ لو عرفوه حق معرفته لم يثبتوا له نداً ولم يحسدوا من اختاره للرسالة كما وبخهم عليه بقوله {أم عندهم خزائن ربك} حتى يختاروا للنبوة من أرادوه ) .

وقال أبو السعود في تفسيره (8/59) : 
( "بل هم في شك" مما ذكر من شئونه تعالى , غير موقنين في إقرارهم , "يلعبون" لا يقولون ما يقولون عن جد وإذعان , بل مخلوطا بهزؤ ولعب ) .

وقال أيضًا (8/151) : 
({ أَمْ خَلَقُواْ السموات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ } أي : إذا سئلوا: منْ خلقكم وخلق السمواتِ والأرضَ؟ قالوا الله , وهم غيرُ موقنينَ بما قالُوا , وإلا لما أعرضُوا عن عبادتِه ) .


وقال الطبري في تفسيره (9/ 331) عند قوله تعالى : ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)) النساء: ١٤٢ :

( وأما قوله :"ولا يذكرون الله إلا قليلا"، فلعل قائلا أن يقول: وهل من ذكر الله شيء قليل؟.
قيل له : إن معنى ذلك - بخلاف ما ذهبت- : ولا يذكرون الله إلا ذكر رياء ، ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلب الأموال ، لا ذكر موقن مصدّق بتوحيد الله مخلص له الربوبية, فلذلك سماه الله"قليلا"، لأنه غير مقصود به الله، ولا مبتغي به التقرب إلى الله ، ولا مراد به ثواب الله وما عنده, فهو وإن كثر، من وجه نصب عامله وذاكره ، في معنى السراب الذي له ظاهر بغير حقيقة ماء ) . 

أي أنّ إقرارهم لم يكن مستقراً راسخاً في قلوبهم ..

ولذلك يخبر الله تعالى عن قول المجرمين يوم القيامة : ((وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)) السجدة: ١٢.

فقد قال الطبري في تفسيرها (20/176) : 
( (إنَّا مُوقَنُونَ) يقول: إنا قد أيقنا الآن ما كنا به في الدنيا جهالا من وحدانيتك وأنه لا يصلح أن يُعبد سواك ولا ينبغي أن يكون ربّ سواك ، وأنك تحيي وتميت ، وتبعث من في القبور بعد الممات والفناء وتفعل ما تشاء ) .


فإقرارهم بوحدانية الله تعالى وأنّه يحيي ويميت لم يكن متيَقناً عندهم .

۞ وقال تعالى : ((رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (*) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (*) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)) الدخان: ٧ – ٩ 

قال الطبري في تفسيرها (22/12) :
(ويعني بقوله ( رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) يقول تعالى ذكره الذي أنزل هذا الكتاب يا محمد عليك، وأرسلك إلى هؤلاء المشركين رحمة من ربك، مالك السموات السبع والأرض وما بينهما من الأشياء كلها.
وقوله ( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) يقول: إن كنتم توقنون بحقيقة ما أخبرتكم من أن ربكم ربّ السموات والأرض، فإن الذي أخبرتكم أن الله هو الذي هذه الصفات صفاته، وأن هذا القرآن تنزيله، ومحمدا –صلى الله عليه وسلّم- رسوله حق يقين، فأيقنوا به كما أيقنتم بما توقنون من حقائق الأشياء غيره. 
وقوله (لا إِلَهَ إِلا هُوَ) يقول: لا معبود لكم أيها الناس غير ربّ السموات والأرض وما بينهما، فلا تعبدوا غيره، فإنه لا تصلح العبادة لغيره، ولا تنبغي لشيء سواه، يحيي ويميت، يقول: هو الذي يحيي ما يشاء، ويميت ما يشاء مما كان حيا.
وقوله ( رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ) يقول: هو مالككم ومالك من مضى قبلكم من آبائكم الأوّلين، يقول: فهذا الذي هذه صفته، هو الربّ فاعبدوه , دون آلهتكم التي لا تقدر على ضرّ ولا نفع.
وقوله ( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ) يقول تعالى ذكره ما هم بموقنين بحقيقة ما يقال لهم ويخبرون من هذه الأخبار، يعني بذلك مشركي قريش، ولكنهم في شكّ منه، فهم يلهون بشكهم في الذي يخبرون به من ذلك ) .

لقد بيّن الطبري أنّ القرآن دعا المشركين إلى الإيقان بالله تعالى , ولو كان هذا اليقين متوفراً عند المشركين لكان من العبث دعوتهم إلى ذلك , فلم يتوفر عندهم اليقن ولم تستقر تلك العقائد في قلوبهم , فلذلك عبدوا غير الله تعالى من الآلهة المفتراة , قال ابن كثير في تفسيره (7/ 437) :
(ثم قال تعالى: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} أي: أهم خلقوا السموات والأرض؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله , وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له , ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم على ذلك ) .

فإقرارهم بأن الله تعالى الخالق وحده لا شريك له لكن دون تيقّن على ذلك , أدّى إلى شركهم في عبادته , ودونك أقوال بعض أقوال المفسّرين الدالّة على ذلك :

قال السيوطي في الجلالين (699) : 
({أَمْ خَلَقُواْ السموات والأرض} ولا يقدر على خلقهما إلا الله الخالق فلم لا يعبدونه؟ { بَل لاَّ يُوقِنُونَ } به , وإلا لآمنوا بنبيه ) .

وقال النسفي في تفسيره (4/153) :
({ أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض } فلا يعبدون خالقهما { بَل لاَّ يُوقِنُونَ } أي لا يتدبرون في الآيات فيعلموا خالقهم وخالق السماوات والأرض ) .

وقال أبو حيّان في البحر (8/115) : 
({ بل لا يوقنون } : أي إذا سئلوا : من خلقكم وخلق السموات والأرض؟ قالوا : الله ، وهم شاكون فيما يقولون لا يوقنون ) .

وكذلك قال الألوسي في روح المعاني (27/38) : 
( { بَل لاَّ يُوقِنُونَ } أي إذا سئلوا من خلقكم وخلق السموات والأرض؟ قالوا : الله.. وهم غير موقنين بما قالوا , إذ لو كانوا موقنين لما أعرضوا عن عبادته تعالى , فإن من عرف خالقه وأيقن به امتثل أمره وانقاد له ) .

وقال البيضاوي في تفسيره (5/249) : 
({ بَل لاَّ يُوقِنُونَ } إذا سئلوا من خلقكم ومن خلق السموات والأرض قالوا الله , إذ لو أيقنوا ذلك لما أعرضوا عن عبادته ) . 

وقال الجاوي في مراح لبيد (2/461) : 
({أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} فــ «أََمْ» للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي ، أي ما خلقوا السموات والأرض , {بل لا يوقنون} بأن اللّه واحد , فإذا سئلوا من خلقكم ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا : اللّه , وهم غير موقنين بما قالوا ، وإلّا لما  أعرضوا عن عبادته ، أي لما لم ينشأ من إيقانهم باللّه أثر وهو الإقبال على عبادته جعل إيقانهم كالعدم فنفي عنهم , وفي هذا تسلية للنبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- أي إنهم كما طعنوا فيك يا أشرف الخلق طعنوا في خالقهم ) .


وقال ابن عطيّة في تفسيره (6/193) :
(ثم حكم عليهم بأنهم { لا يوقنون } ولا ينظرون نظراً يؤديهم إلى اليقين ) .

وقال الخازن في تفسيره (6/253) : 
({ بل لا يوقنون} أي بالحق وهو توحيد الله تعالى وقدرته على البعث وأن الله تعالى هو خالقهم وخالق السموات والأرض , فليؤمنوا به وليوقنوا أنه ربهم وخالقهم ) .

وقال البقاعي في نظم الدرر (7/305) : 
({أم خلقوا} أي على وجه الشركة {السماوات والأرض} فهم لذلك عالمون بما فيها على وجه الإحاطة واليقين , حتى علموا أنك تقولته ليصير لهم رده والتهكم عليه .
ولما كان التقدير : لم يكن شيء من ذلك ليكون لهم شبهة في الكلام فيك ، عطف عليه قوله : {بل لا يوقنون} أي ليس لهم نوع يقين ليسكنوا إلى شيء واحد لكونه الحق , أو ليعلموا أن هذه الملازم الفاضحة تلزمهم فيكفوا عن أمثالهم ) .

وقال ابن الجوزي في زاد المسير (8/56) : 
(قوله تعالى : { بَلْ لا يوقِنون } بالحق وهو توحيدُ الله وقدرته على البعث ) .

وقال الطبراني في تفسيرها : 
({بَل لاَّ يُوقِنُونَ} ؛ بالحقِّ وهو توحيدُ اللهِ وقدرتهُ على البعثِ).


ومن أقر بشيء وكان عمله مناقضاً لإقراره كان إقراره غير نابع عن يقين راسخ , كمن ادّعى كمال محبته لله تعالى إلا أنّه قد انتهك حرماته وعصاه في أوامره , فلا يقال بأنه كامل المحبة لله تعالى لمناقضة أعماله إقرارَه , وكمن ادّعى حبّ الإسلام والمسلمين إلا أنه ناصر الكافرين وأعانهم على المؤمنين , فلا يقول عاقل بأنه محب للمسلمين بعدما أعان الكافرين عليهم وفرح بهزيمتهم , وكذلك من ادّعى من المشركين العابدين غير الله تعالى بأن الله تعالى ربّه وهو الذي يتصرف في الأمور كلّها صغيرها وكبيرها علويّها وسفليّها , فلن يكون إقراره سليماً طالما عبد مع الله غيره واعتقد باستحقاقها للألوهية ...

ولذلك قال ابن القيم في هداية الحيارى(364-369) تحت عنوان : 
"إنكار النبوات معناه جحد الخالق والجهل بالحقائق" :


( وأخبر سبحانه أن من جحد أن يكون قد أرسل رسله وأنزل كتبه , لم يقدره حق قدره وأنه نسبه إلى ما لا يليق به , بل يتعالى ويتنزه عنه , فإن في ذلك إنكار دينه , وإلهيته , وملكه , وحكمته , ورحمته , والظن السيء به أنه خلق خلقه عبثاً باطلاً , وأنه خلاهم سداً مهملاً , وهذا ينافي كماله المقدس , وهو متعال عن كل ما ينافي كماله , فمن أنكر كلامه وتكليمه وإرساله الرسل إلى خلقه فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق عظمته , كما أن من عبد معه إلها غيره لم يقدره حق قدره , معطل جاحد لصفات كماله , ونعوت جلاله , وإرسال رسله وإنزال كتبه , ولا عظّمه حق عظمته .

ولذلك كان جحد نبوة خاتم أنبيائه ورسله وإنزال كتبه وتكذيبه إنكاراً للرب تعالى في الحقيقة , وجحودا له , فلا يمكن الإقرار بربوبيته وإلهيته وملكه بل ولا بوجوده مع تكذيب محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- , وقد أشرنا إلى ذلك في المناظرة التي تقدمت , فلا يجامع الكفر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإقرار بالرب تعالى وصفاته أصلا , كما لا يجامع الكفر بالمعاد واليوم الآخر الإقرار بوجود الصانع أصلا !

وقد ذكر سبحانه ذلك في موضعين من كتابه في سورة الرعد في قوله : ((وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ)) , والثاني في سورة الكهف في قوله تعالى : ((وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (*) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (*) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (*) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا)) 

فالرسول -صلوات الله وسلامه عليه- إنما جاء بتعريف الرب تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله , والتعريف بحقوقه على عباده , فمن أنكر رسالاته فقد أنكر الرب الذي دعا اليه وحقوقه التي أمر بها , بل نقول لا يمكن الاعتراف بالحقائق على ما هي عليه مع تكذيب رسوله , وهذا ظاهر جداً لمن تأمل مقالات أهل الارض وأديانهم .

فإن "الفلاسفة" لم يمكنهم الاعتراف بالملائكة والجن والمبدأ والمعاد , وتفاصيل صفات الرب تعالى وأفعاله , مع إنكار النبوات , بل والحقائق المشاهدة التي لا يمكن إنكارها لم يثبتوها على ما هي عليه ولا أثبتوا حقيقة واحدة على ما هي عليه البتة , وهذا ثمرة إنكارهم النبوات , فسلبهم الله إدراك الحقائق التي زعموا أن عقولهم كافية في إدراكها , فلم يدركوا منها شيئاً على ما هو عليه حتى ولا الماء ولا الهواء ولا الشمس , ولا غيرها فمن تأمل مذاهبهم فيها علم أنهم لم يدركوها وإن عرفوا من ذلك بعض ما خفي على غيرهم .

وأما "المجوس" فأضل وأضل .

وأما "عباد الأصنام" فلا عرفوا الخالق ولا عرفوا حقيقة المخلوقات , ولا ميزوا بين الشياطين والملائكة وبين الأرواح الطيبة والخبيثة , وبين أحسن الحسن وأقبح القبيح , ولا عرفوا كمال النفس وما تسعد به ونقصها وما تشقى به .

وأما "النصارى" , فقد عرفت ما الذي أدركوه من معبودهم وما وصفوه به , وما الذي قالوه في نبيهم وكيف لم يدركوا حقيقته البتة , ووصفوا الله بما هو من أعظم العيوب والنقائص , ووصفوا عبده ورسوله بما ليس له بوجه من الوجوه , وما عرفوا الله ولا رسوله , والمعاد الذي أقروا به لم يدركوا حقيقته ولم يؤمنوا بما جاءت به الرسل من حقيقته , إذ لا أكل عندهم في الجنة ولا شرب ولا زوجة هناك ولا حور عين يلذ بهن الرجال كلذاتهم في الدنيا , ولا عرفوا حقيقة أنفسهم وما تسعد به وتشقى , ومن لم يعرف ذلك فهو أجدر أن لا يعرف حقيقة شيء كما ينبغي البتة , فلا لأنفسهم عرفوا ولا لفاطره وبارئها , ولا لمن جعله إليه سببا في فلاحها وسعادتها , ولا للموجودات وأنها جميعها فقيرة مربوبة مصنوعة , ناطقها وصامتها آدميها وجنيها وملكها , فكل من في السموات عبده وملكه , وهو مخلوق مصنوع مربوب فقير من كل وجه , ومن لم يعرف هذا لم يعرف شيئا!!

وأما "اليهود" فقد حكى الله لك عن جهل أسلافهم وغباوتهم وضلالهم ما يدل على ما وراءه من ظلمات الجهل التي بعضها فوق بعض , ويكفي في ذلك عبادتهم العجل الذي صنعته أيديهم من ذهب , ومن عبادتهم أن جعلوه على صورة أبلد الحيوان وأقله فطانة الذي يضرب المثل به في قلة الفهم , فانظر إلى هذه الجهالة والغباوة المتجاوزة للحد كيف عبدوا مع الله إلها آخر , وقد شاهدوا من أدلة التوحيد وعظمة الرب وجلاله ما لم يشاهده سواهم؟! وإذا قد عزموا على اتخاذ إله دون الله فاتخذوه ونبيهم حي بين أظهرهم لم ينتظروا موته , وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر العلوية كالشمس والقمر والنجوم بل من الجواهر الأرضية , واذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر التي خلقت فوق الارض عالية عليها كالجبال ونحوها بل من جواهر لا تكون إلا تحت الارض والصخور والأحجار عالة عليها ...... 
فأي معرفة لهؤلاء بمعبودهم؟ ونبيهم؟ وحقائق الموجودات؟
وحقيق بمن سأل نبيه أن يجعل له إلها فيعبد إلها مجعولا بعد ما شاهد تلك الآيات الباهرات , أن لا يعرف حقيقة الإله , ولا أسماءه , وصفاته , ونعوته , ودينه , ولا يعرف حقيقة المخلوق وحاجته وفقره 

ولو عرف هؤلاء معبودهم ورسولهم لما قالوا لنبيهم : ((لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)) (البقرة) , ولا قالوا له : ((فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)) (المائدة) , ولا قتلوا نفسا وطرحوا المقتول على أبواب البرآء من قتله ونبيهم حيٌ بين أظهرهم , وخبر السماء والوحي يأتيه صباحاً ومساء , فكأنهم جوّوزا أن يَخفى هذا على الله كما يخفى على الناس ..

ولو عرفوا معبودهم لما قالوا في بعض مخاطباتهم له : (يا أبانا انتبه من رقدتك كم تنام) 

ولو عرفوه لما سارعوا الى محاربة أنبيائه وقتلهم وحبسهم ونفيهم , ولما تحيلوا على تحليل محارمه وإسقاط فرائضه بأنواع الحيل , ولقد شهدت التوراة بعدم فطانتهم وأنهم من الأغبياء 
ولو عرفوه لما حجروا عليه بعقولهم الفاسدة أن يأمر بالشيء في وقت لمصلحة ثم يزيل الأمر به في وقت آخر لحصول المصلحة وتبدله بما هو خير منه , وينهي عنه ثم يبيحه في وقت آخر لاختلاف الأوقات والأحوال في المصالح والمفاسد , كما هو مشاهد في أحكامه القدرية الكونية التي لا يتم نظام العالم ولا مصلحته إلا بتبديلها واختلافها بحسب الأحوال والأوقات والأماكن , فلو اعتمد طبيب أن لا يغير الأدوية والأغذية بحسب اختلاف الزمان والأماكن والأحوال لأهلك الحرث والنسل , وعد من الجهال , فيكف يحجر على طبيب القلوب والأديان أن تتبدل أحكامه بحسب اختلاف المصالح؟! 

وهل ذلك إلا قدحٌ في حكمته ورحمته وقدرته وملكه التام وتدبيره لخلقه؟!

ومن جهلهم بمعبودهم ورسوله وأمره أنهم أُمروا أن يدخلوا باب المدينة التي فتحها الله عليهم سجدا ويقولوا حطة , فيدخلوا متواضعين لله سائلين منه أن يحط عنهم خطاياهم , فدخلوا يزحفون على أستاههم بدل السجود لله , ويقولون هنطا سقمانا , أي حنطة سمراء , فذلك سجودهم وخشوعهم , وهذا استغفارهم واستقالتهم من ذنوبهم..) .


وهذا كلام يَنسف عقائد الوهابيّة في المشركين نسفًا , فيذرها قاعًا صفصفًا , فلا يحتاج إلى تعليق! لأنّه كالتلخيص لما سبق!!

فالفلاسفة والمجوس وعباد الأصنام والنصارى واليهود لم يوحدوا الله في ربوبيته كما تزعم الوهابية! بل كانوا جاحدين للرب سبحانه جاهلين به..وأمّا قوله تعالى : ((أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)) الزمر: ٣ 

استدل الوهابية بهذه الآية على أن وظيفة الأصنام عند عابديها لم تكن إلا لتقرّبهم من الله تعالى , لا أنّهم كانوا يعتقدون فيها شيئاً من النفع والضر والعزة والذلة والنصر والهزيمة وغيره , وقد برهَنْتُ فيما مضى بما لا يدع مجالاً للشك أن المشركين عبدوا أصنامهم معتقدين فيها تلك الخصائص , إذاً فلماذا قَصَروا وظيفةَ الأصنام على تقريبهم من الله تعالى؟

◙ قلت : إن هذا القصر إمّا أن يكون قصراً حقيقياً أو إضافياً ؛ 

أ)) - فإذا كان هذا القصر حقيقياً فلا بد من التوفيق بين النصوص الكثيرة التي تثبت اعتقاد المشركين النفعَ والضرَّ والتصرّفَ في أصنامهم , وبين هذه الآية التي تنفي اعتقادَهم ذلك وتقصر اعتقادهم في الأصنام على تقريبهم من الله تعالى , فوجب الفحص والتوفيق بين هذه الآيات , أمّا من أخذ بالنصوص التي تثبت اعتقادهم خصائص الربوبية في أصنامهم وترك هذه الآية دون توفيق مع تلك النصوص , أو مَن حمل هذه الآية على أن المشركين لم يعتقدوا ذلك في أصنامهم كالوهابية , فقد مكّن مخلب التناقض في آيات القرآن وترك النصوص تتناقض , وبناءً على كون القصر حقيقياً :
يكون هؤلاء المشركون كاذبون في ادّعائهم أن أصنامهم ليس لها إلا تقريبهم من الله تعالى , وإنما جاء هذا الادّعاء لتبرير موقفهم المحرج عند إلزامهم بأن أصنامهم لا تضر ولا تنفع فلا تصح عبادتها , فقد قال تعالى : ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)) , فكذّبهم الله تعالى في دعواهم تلك .

فقد ثبت بالآيات القاطعات أن المشركين ينسبون النفع والضر لأصنامهم , ويشتمون الله تعالى من أجلِها , ويجعلون لها النصيبَ الأكبر ولله النصيب الأحقر , ويُجلّونَها وينزهونها عمّا يصفون به الله تعالى , فكيف تكون مجرّد معبودات للتقريب من الله تعالى؟! مع أنّها مقدَّمةٌ في قلوبهم معظمةٌ في نفوسهم أكثر منه سبحانه! 

فقال البقاعي في تفسيره عن دعواهم تلك (6/416) :
(أرادوا بهذا الاعتذار المُسكت عن قبيح صنيعهم ) . 

وقال ابن عاشور في تفسيره (23/323) : 
(يجوز أن يكون خبراً ثانياً عن قوله : {والذين اتخذوا من دونه أولياء} وهو كناية عن كونهم كاذبين في قولهم : {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله} وعن كونهم كفّارين بسبب ذلك ، وكناية عن كونهم ضالّين).


ب)) - وإذا كان القصر إضافياً , فتكون عبادتهم لأصنامهم لتقريبهم من الله تعالى , مع عدم نفي أغراضٍ أخرى في عبادتهم لتك الأوثان ..

فقد قال ابن عاشور في تفسيره (23/322): 
(والاستثناء في قوله : { إلاَّ ليقربونا } استثناء من علل محذوفة ، أي ما نعبدهم لشيء إلا لعلة أن يقرّبونا إلى الله فيفيد قصراً على هذه العلة قصر قلب إضافي ، أي دون ما شنعتم علينا من أننا كفرنا نعمة خالقنا إذ عبدنا غيره . وقد قدمنا آنفاً من أنهم أرادوا به المعذرة ويكون في أداة الاستثناء استخدام لأن اللام المقدرة قبل الاستثناء لام العاقبة لا لام العلة إذ لا يكون الكفران بالخالق علة لعاقل ولكنه صائر إليه ، فالقصر لا ينافي أنهم أعدوهم لأشياء أخر إذا عدوهم شفعاء واستنجدوهم في النوائب ، واستقسموا بأزلامهم للنجاح ، كما هو ثابت في الواقع) .

ولهذا قال ابن كثير في تفسيره (6/ 593) : 
(يقول تعالى منكرًا على المشركين في اتخاذهم الأنداد آلهة مع الله ، يبتغون بذلك أن تنصرهم تلك الآلهة وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى ) .

فلم يقصر وظيفتها عندهم على التقريب من الله تعالى , بل كانوا يعتقدون فيها أيضاً النصر والرزق وغيرها من صفات الربوبية .

ومعنى تقريب الأصنام للمشركين هي شفاعتها لهم , فقد قال الشوكاني في فتح القدير (4/449) : 
( والمراد بقولهم : {إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى } الشفاعة ، كما حكاه الواحدي عن المفسرين) ..

وشفاعتهم تلك في اعتقاد المشركين هي شفاعة واجبة على الله تعالى دون إذنه ومشيئته , فقال ابن كثير في تفسيره (7/85) : 
( وأخبر أن الملائكة التي في السموات من المقربين وغيرهم ، كلهم عبيد خاضعون لله، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى ، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم، يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه!)وأمّا قوله تعالى : ((وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)) يوسف: ١٠٦.

◙ إذا قلنا في هذه الآية بأن إيمانهم هو إيمان ببعض خصائص الربوبية كالخلق والرزق والملك , فهذا لا ينفي أنهم أشركوا معه غيره فيها , فهم يُقرون مثلاً بأنه الرازق وبأن غيره رازق أيضاً , فقد قال ابن كثير فيما سبق نقله : (يقول تعالى منكرًا على المشركين في اتخاذهم الأنداد آلهة مع الله ، يبتغون بذلك أن تنصرهم تلك الآلهة و ترزقهم و تقربهم إلى الله زلفى ) .

وإيمانُهم هذا لا ينفي أنهم نسبوا لغيره كثيراً من صفات الربوبية أيضاً واتخذوا أرباباً أخرى , فقد قال الطبري في تفسيره (16/286) : 
( وما يُقِرُّ أكثر هؤلاء -الذين وصَفَ عز وجل صفتهم بقوله: (وكأين من آية في السموات والأرض يمرُّون عليها وهم عنها معرضون ) - بالله أنه خالقه ورازقه وخالق كل شيء , ( إلا وهم مشركون ) في عبادتهم الأوثان والأصنام ، واتخاذهم من دونه أربابًا ، وزعمهم أنَّ له ولدًا ، تعالى الله عما يقولون ) ..

فكونهم اعترفوا بأنّ الله خالق رازق لا يعني أنهم وحّدوه في الربوبية , فقد صرّح الطبري بأنهم اتخذوا من دونه أرباباً , ونسبوا إليه الولد , وهذا شرك في الربوبية .

◙ ◙ ثم إنّ إيمانهم هذا ليس يقينياً راسخاً بل متذبذب غير كامل , فليس إيماناً حقيقياً , وعبادتهم غير الله تعالى دليل على أن إيمانهم ليس يقينياً وأنهم يعتقدون في أصنامهم كذلك خصائص الربوبية , فقد قال الإمام العز بن عبد السلام في تفسيره (2/142) : 
( {مُّشْرِكُونَ } يقولون : اللهُ ربنا وآلهتنا ترزقنا) .

فعبادتُهم غيرَ الله تعالى تنقض دعواهم أنهم مؤمنين , لأن من عبد شيئاً لا بد وأن ينجذب قلبه إليه محبة له ورجاءً لنفعه وخوفاً لمضرته , فيكون معتقداً فيه صفات الربوبية ..

فقد قال ابن عاشور في تفسيره (13/63) : 
( وجملة {وما يؤمن أكثرهم بالله} في موضع الحال من ضمير {يمرون} أي وما يؤمن أكثر الناس إلا وهم مشركون ، والمراد بـ{ أكثر الناس } أهل الشرك من العرب . وهذا إبطال لما يزعمونه من الاعتراف بأن الله خالقهم كما في قوله تعالى : {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } ، وبأن إيمانهم بالله كالعدم لأنهم لا يؤمنون بوجود الله إلا في تشريكهم معه غيره في الإلهية ).

وعلى هذا فإيمانهم غيرُ مستقرٍّ في قلوبهم , فقد قال الإمام ابن الجوزي في زاد المسير (4/294) : 

( فيهم ثلاثة أقوال : 
* أحدها : أنهم المشركون ، ثم في معناها المتعلق بهم قولان :
- أحدهما : أنهم يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم وهم يشركون به ، رواه أبوصالح عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، وقتادة .
- والثاني : أنها نزلت في تلبية مشركي العرب ، كانوا يقولون : لبَّيك اللهم لبَّيك ، لبَّيك لا شريك لك ، إِلا شريكاً هو لكْ ، تملكه وما ملك ، رواه الضحاك عن ابن عباس .
* والثاني : أنهم النصارى ، يؤمنون بأنه خالقهم ورازقهم ، ومع ذلك يشركون به ، رواه العوفي عن ابن عباس .
* والثالث : أنهم المنافقون ، يومنون في الظاهر رئاء الناس ، وهم في الباطن كافرون ، قاله الحسن .
◙ ◙ ◙ فان قيل : كيف وصف المشرك بالإِيمان؟ 
فالجواب : أنه ليس المراد به حقيقة الإِيمان ، وإِنما المعنى : أن أكثرهم مع إِظهارهم الإِيمان بألسنتهم مشركون ) .

فتأمّل كيف صرّح ابن الجوزي بأن الإيمان المذكور في الآية –على جميع الأقوال في تفسيرها- ليس إيماناً حقيقياً!!

فمما سبق ..
َظَهَر غلط الوهابية في فهم الآيات التي يحتجّون بها على توحيد المشركين في الربوبيّة توحيداً تامّا , فإذا جاء من لا معرفة له بمعاني النصوص , وموارد العموم والخصوص , وعلم هذا ونظر , وألزم التناقض في الآيات الغرر , فقد أخطأ وعثر , ونسأل الله أن يغفر لنا ما عبر وما غبر , فقد ظهر التوفيق بين الآيات وبان , فبأي آلاء ربكما تكذبان!

عثمان محمد النابلسي منتدى الأصلين 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق