التعريف الأول والثاني :
يقول صالح آل الشيخ في التمهيد (الباب التاسع) :( قال : وقوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] فأمر بالصلاة ، وأمر بالنحر ، وإذا أمر به فهو داخل في حد العبادة ؛ لأن العبادة : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة . فأمره - جل وعلا - بالصلاة دليل على أنها محبوبة لديه ، وأمره سبحانه بالنحر دليل على أنه محبوب له ، ومرضي ، فتكون الصلاة والنحر إذًا عبادة لله - جل وعلا - .
وعلى التعريف الآخر .. إن العبادة هي : كل ما يتقرب به العبد إلى الله - جل وعلا - ممتثلا به الأمر والنهي . ويكون النحر عبادة أيضا ؛ لأنه يُعمل تقربا إلى الله - جل وعلا - بامتثال الأمر الوارد فيه ) .
فللعبادة تعريفان في الكلام السابق :
الأول : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة
الثاني : كل ما يتقرب به العبد إلى الله - جل وعلا - ممتثلا به الأمر والنهي .
لكن يَرِدُ على هذين التعريفين ما يلي :
أولاً : أنّ هذين التعريفين لا ينطبقان على كلّ مصاديق العبادة ؛
أ- )) فهناك أقوام يعبدون أصنامهم بالجلوس أمامها على هيئة التربع لساعات طوال دون حراك , وهناك من يعبد إلهه بالتلطخ ببوله والجلوس تحته! , وهناك من يعبد صنمه بالتدلي قبالته جاعلاً رأسه في الأسفل وقدميه في الأعلى , وكلّ هذه الأفعال عبادة , لكنّها لا يحبها الله ويرضاها , ولا تقرب إلى الله بامتثال أمره ونهيه!!
ب- )) قد يعبد المسلم اللهَ تعالى بفعلٍ لم يرد في الشرع , فيكون فعله عبادة , لكنّها عبادةٌ فاسدة غير مقبولة لأنها بغير ما شرع .
ثانياً : يريد الوهابية بهذين التعريفين أن ما صحّ أن يحبه ويرضاه الله أو أن يُتقرب به إليه بامتثال الأمر والنهي , إذا صرف لله تعالى فهو عبادة له , وإذا صُرف لغير الله تعالى فهو شرك بالله تعالى وعبادة لغيره , وهذا يرد عليه ما يلي :
أ- )) هناك كثير من الأفعال التي يحبها الله ويرضاها وتُقرّب إليه , كإطعام الجائع وإماطة الأذى عن الطريق , لكنّها إذا أُديت لغير الله تعالى لا تكون شركاً بالله وعبادة لغيره , فقد يميط شخصٌ الأذى عن الطريق لا للتقرب إلى الله بل للتقرب من أحد المسؤولين , لكنّه مع ذلك لا يكون عابداً للمسؤول!
ومن نظر إلى سجود المشرك للصنم فسيقول أنه عبادة لغير الله , لكنّ هذا المشرك إذا أطعم جائعاً من أجل أن يتقرب إلى أحد المسؤولين فلا نقول أنّه عبد غير الله تعالى !.
ب- )) ورد في الشرع أنّ هناك بعض الأفعال التي يحبها الله ويرضاها , أدّيت لغير الله تعالى لكنّها لم تكن شركاً , فإن السجود ممّا يُحبّه الله ويرضاه ويقرب إليه إذا فعل له , لكنّ الملائكة سجدت لسيدنا آدم –عليه السلام- ولم تكن مشركة بذلك!! , وسجد إخوة سيدنا يوسف له – عليه السلام- ولم يشركوا أيضاً .
ج- )) من المعلوم أنّ سؤال المؤمن ربّه تعالى عبادة , فقد يَسألُ المؤمنُ اللهَ تعالى أمراً ممّا يستطيع البشر التسبب فيه فيكون سؤاله عبادة , فقد قالت أم المؤمنين السيدة عائشة –رضي الله عنها- " (سلوا الله كل شيء حتى شسع النعل) , لكنّ هذا الشخص قد يَطلبُ نفس الطلب الذي دعا الله به من شخص آخر ولا يكون عابداً له!!
فالقيود التي وضعوها للعبادة في التعريفين السابقين , تصلح قيوداً للعبادة بالمعنى الأعم وهو الطاعة والقربة , لا بالمعنى الأخص الذي إذا أُدّيَ لغير الله تعالى كان شركاً , فإن العبادة بالمعنى الأعم ما يقع صحيحاً دون قصد التقرب إلى الله تعالى.. لكن لا يثاب عليه إلا إذا قصد به وجه الله , كالزواج والطلاق والبيع والشراء والإنفاق على الأبناء وعيادة المرضى وإتقان العمل , فهذا أداؤه لغير الله تعالى ليس شركاً , والعبادة بالمعنى الأخص هي الخضوع الذي يحصل به الثواب وكان بقصد التعبّد , ولا يقع صحيحاً إلا بنية التعبد , فمن أدّى العبادة بهذا المعنى لغير الله تعالى فقد أشرك , فترى أن القوم لم يفرقوا بين العبادة بالمعنى الأعم وهي القربة والطاعة , وبين العبادة بالمعنى الأخص وهي التذلل بقصد التعبّد .
ثم إنّهم لم يفرقوا بين أداء الفعل -كالطواف مثلا- بنيّّة التعبد وأدائه بغير تلك النيّة , وجعلوا أداء أي منهما لغير الله تعالى شركاً , فلم يراعوا القيد المهمّ في تعريف العبادة وهو : (قصد التعبّد بذلك الفعل) , فمدار الأعمال على نياتها , فيكون الطواف والسجود شركاً إذا فُعل لغير الله تعالى بقصد التعبد , ولا يكون شركاً إذا لم يقصد به التعبد , فسجود الخادم للملك بقصد التعبد يعتبر شركاً , وسجود إخوة سيدنا يوسف وأبويه له بغير قصد التعبد لا يعتبر شركاً , مع أن السجود له نفس الصورة في كلا الحالين .التعريف الثالث :
العبادة : هي الحب مع الذل ؛ فكل من ذللت له وأطعته وأحببته دون الله فأنت عابد له. (مدارج السالكين 2/182)
وهذا التعريف منقوض بكثير من الأفعال التذللية التي يؤديها المسلم لغير الله تعالى مع حبّه إياه , فقد أمَرَنا الشرعُ بالتذلل للنبي –صلى الله عليه وسلم- وتوقيره وحبّه , وأمَرَنا بالتذلل للمؤمنين وحبّهم , وأمَرَنا بالتذلل للوالدين مع حبّهم , أفيكون الشرع آمراً بعبادة غير الله تعالى؟!!
عثمان محمد النابلسي منتدى الأصلين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق